فصل: تفسير الآية رقم (42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (41):

{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}
معنى: {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض..} [الحج: 41] جعلنا لهم سلطاناً وقوة وغَلَبة، فلا يَجترئ أحد عليهم أو يزحزحهم، وعليهم أنْ يعلموا أن الله ما مكَّنهم ونصرهم لذاتهم، وإنما ليقوموا بمهمة الإصلاح وينقوا الخلافة الإنسانية في الأرض من كُلِّ ما يُضعِف صلاحها أو يفسده.
لذلك، سيدنا سليمان عليه السلام كان يركب بساط الريح يحمله حيث أراد، فداخله شيء من الزهو، فمال به البساط وأوشك أنْ يُلقيه، ثم سمع من البساط مَنْ يقول له: أُمِرْنا أن نطيعك ما أطعتَ الله.
والممكَّن في الأرض الذي أعطاه الله البأْس والقوة والسلطان، يستطيع أنْ يفرض على مجتمعه ما يشاء، حتى إنْ مُكِّن في الأرض بباطل يستطيع أنْ يفرض باطله ويُخضِع الناس له، ولو إلى حين.
فماذا يُناط بالمؤمن إنْ مُكِّن في الأرض؟
يقول تعالى: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة..} [الحج: 41] ليكونوا دائماً على ذكْر وولاء من ربهم الذي وهبهم هذا التمكين؛ ذلك لأنهم يترددون عليه سبحانه خَمْس مرات في اليوم والليلة.
{وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} [الحج: 41] فهذه أسس الصلاح في المجتمع والميزان الذي يسعد به الجميع.
{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور} [الحج: 41] يعني: النهاية إلينا، وآخر المطاف عندنا، فمَن التزم هذه التوجيهات وأدَّى دوره المنُوط في مجتمعه، فبها ونِعْمتْ، ومَنْ ألقاها وراء ظهره فعاقبته معروفة.
ثم يُسلِّي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لا يهتم بما يفعله قوم من كفر وعناد ومجابهة للدعوة: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ..}

.تفسير الآية رقم (42):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)}
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ..} [الحج: 42] يعني: في دعوتك فيواجهونك، ويقفون في سبيل دعوتك ليبطلوها، فاعلم أنك لست في ذلك بِدْعاً من الرسل، فقد كُذِّب كثير من الرسل قبلك، وعليك أَلاَّ تلاحظ مسألة التكذيب منفصلةً عن عاقبته، نعم: كذب القوم لكن كيف كانت العاقبة؟ اتركناهم أم أخذناهم أَخْذ عزيز مقتدر؟
فلا تحزن، فسوف يحلُّ بهم ما حَلَّ بسابقيهم من المكذِّبين والمعاندين.
وقلنا: إن الرسول يتحمّل من مشقة الرسالة وعناء الدعوة على قَدْر رسالته، فكلُّ رسل الله قبل محمد كان الرسول يُرْسَل إلى قومه خاصة، وفي مدة محدودة، وزمان محدود، ومع ذلك تعبوا كثيراً في سبيل دعوتهم، فما بالك برسول بُعِثَ إلى الناس كافة في كل زمان وفي كل مكان، لا شَكَّ أنه سيتحمل من التعب والعناء أضعاف ما تحمِّله إخوانه من الرسل السابقين.
وكأن الحق تبارك وتعالى يُعد رسوله صلى الله علية وسلم ويُوطِّنه على تحمُّل المشاقِّ من بداية الطريق حتى لا تفتّ في عَضُده حين يواجهها عند مباشرة أمر الدعوة، يقول له: ليست السيادة أمراً سهلاً، إنما دونها متاعب وأهوال ومصاعب فاستعد، كما تنبه ولدك: انتبه، فالامتحانات ستأتي هذا العام صعبة، فالوزارة تريد تقليل عدد المتقدمين للجامعة، فاجتهد حتى تحصل على مجموع مرتفع، وحين يسمع الولد هذا التنبيه يُجمع تماسكه، ويجمع تركيزه، فلا يهتز حين يواجه الامتحانات.
ثم يذكر الحق تبارك وتعالى نماذج للمكذِّبين للرسل: {وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ موسى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ..}

.تفسير الآيات (43- 44):

{وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)}
نلحظ هنا أن الحق سبحانه ذكر المكذبين، إلا في قصة موسى فذكر المكذَّب، فلم يَقُل: وقوم موسى بل قال: وكُذِّب موسى، لماذا؟ قالوا: لأن مهمته كانت أصعب حيث تعرَّض في دعوته لمنِ ادَّعى الألوهية ذاتها.
وقوله تعالى: {فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ..} [الحج: 44] أمليت: أمهلْتُ حتى ظنوه إهمالاً، وهو إمهال بأنْ يمدّ الله لهم، ويطيل في مدتهم، لا إكراماً لهم، ولكن ليأخذهم بعد هذا أخْذ عزيز مقتدر، وفي آية أخرى يُوضِّح لنا هذه البرقية المختصرة، فيقول سبحانه: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً..} [آل عمران: 178].
وفي هذا المعنى يقول أيضاً: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55].
إذن: لا تغتر بما في أيديهم؛ لأنه فتنة، حتى إذا أخذهم الله كانت حسرتهم أكبر، فمن عُدم هذه النعم لا يتعلق قلبه بها، ولا يألَم لفقدها.
وقد حدث شيء من هذا في أيام سعد زغلول، وكان أحد معارضيه يشتمه ويتطاول عليه، لكن فوجئ الجميع بأنه يُولِّيه منصباً مرموقاً في القاهرة، فتعجّب الناس وسألوه في ذلك فقال: نعم، وضعته في هذا المنصب ليعرف العلو والمنزلة حتى يتحسَّر عليها حين تُسْلَب منه، وتكون أنكى له. يعني: يرفعه إلى أعلى حتى يهوي على رقبته، لأنه ما فائدة أن توقعه من على الحصيرة مثلا ً؟!!
ثم يقول تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] الحق سبحانه يُلقِي الخبر في صورة استفهام لتقول أنت ما حدث وتشهد به.
والمراد: أعاقبناهم بما يستحقون؟
والنكير: هو الإنكار على شخص بتغيير حاله من نعمة إلى نقمة، كالذي يُكرمك ويُواسيك ويَبَشُّ في وجهك ويُغدق عليك، ثم يقطع عنك هذا كله، فتقول: لماذا تنكَّر لي فلان؟ يعني: قطع عني نعمته.
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن ينتزع مِنَّا الإقرار بقدرته تعالى على عقاب أعدائه ومُكذِّبي رسله، وهذا المعنى جاء أيضاً في قوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 29- 36] يعني: هل جُوزي الكفار بما عملوا؟ وهل استطعنا أنْ نعاقبهم بما يستحقون من العذاب؟
{فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] أي: إنكاري لموقفهم من عدم أداء حقوق النعمة فبدَّلها الله عليهم نقمة.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا..}

.تفسير الآية رقم (45):

{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}
قوله تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ..} [الحج: 45](كأيِّن) أداة تدل على الكَثْرة مثل: كم الخبرية حين تقول: كَمْ أحسنتُ إليك. تعني مرات عديدة تفوق الحصر، فهي تدل على المبالغة في العدد والكمية، ومنها قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ..} [آل عمران: 146].
والقرية: اسم للمكان، وحين يُهلِك الله القرية لا يُهلك المكان، إنما يهلك المكين فيه، فالمراد بالقرية أهلها، كما ورد في قوله تعالى: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا..} [يوسف: 82] أي: اسأل أهل القرية.
ويحتمل أن يكون المعنى: اسأل القرية تُجبك، لأنك لو سألتَ أهل القرية فلربما يكذبون، أمَّا القرية فتسجل الأحداث وتُخبِر بها كما حدثت.
وقد يتعدى الهلاك إلى القرية ذاتها، فيغير معالمها بدليل قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا..} [النمل: 52].
ومعنى: {أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ..} [الحج: 45] أي: بسبب ظُلْمها، ولا يُغيِّر الله ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم، وفي آية أخرى يقول تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
فهلاك القُرَى لابد أن يكون له سبب، فلما وقع عليها الهلاك أصبحت {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا..} [الحج: 45] الشيء الخاوي يعني: الذي سقط وتهدَّم على غيره، وقوله: {على عُرُوشِهَا..} [الحج: 45] يدل على عِظَم ما حَلَّ بها من هلاك، حيث سقط السقف أولاً، ثم انهارت عليه الجدران، أو: أن الله تعالى قَلَبها رأساً على عَقِب، وجعل عاليها سافلها.
وقوله سبحانه: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ..} [الحج: 45] البئر: هو الفجوة العميقة في الأرض، بحيث تصل إلى مستوى الماء الجوفيّ، ومنه يُخرجون الماء للشُّرْب وللزراعة.. إلخ ومنه قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ..} [القصص: 23] أي: البئر الذي يشربون منه.
والبئر حين تكون عاملة ومُسْتفاداً منها تلحظ حولها مظاهر حياة، حيث ينتشر الناس حولها، وينمو النبات على بقايا المياه المستخرجة منها، ويحوم حولها الطير ليرتوي منها، أما البئر المعطّلة غير المستعملة فتجدها خَرِبة ليس بها علامات حياة، وربما تسفو عليها الرياح، وتطمسها فتُعطَّل وتُهجَر، فالمراد معطلة عن أداء مهمتها، ومهمة البئر السُّقيا.
{وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج: 45] القصر: اسم للمأوى الفَخْم؛ لأن المأوى قد يكون خيمة، أو فسطاطاً، أو عريشة، أو بيتاً، أو عمارة، وعندما يرتقي الإنسان في المأوى فيبني لنفسه شيئاً خاصاً به، لكن لابد له أنْ يخرج لقضاء لوازم الحياة من طعام وخلافه، أما القصر فيعني مكان السكن الذي يتوفر لك بداخله كل ما تحتاج إليه، بحيث لا تحتاج إلى الخروج منه، يعني: بداخله كل مُقوِّمات الحياة. ومنه: سميت الحور مقصورات في قوله تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} [الرحمن: 72] يعني: لا تتعداها ولا تخرج منها.
و{مَّشِيدٍ} [الحج: 45] من الشيد، وهو الجير الذي يستعمل كَمُونَةٍ في بناء الحجر يعني: مادة للصق الحجارة، وجَعْلها على مستوى واحد، وقديماً كان البناء بالطوب اللَّبن، والمونة من الطين، أما في القصور والمساكن الفخمة الراقية فالبناء بالحجر، والمشيد أيضاً العالي المرتفع، ومنه قولهم: أشاد به يعني: رفعه وأعْلى من مكانته، والارتفاع من مَيْزات القصور، ومعلوم أن مقاسات الغرف في العمارات مثلاً غيرها في القصور، هذه ضيقة منخفضة، وهذه واسعة عالية.
وفي قوله تعالى: {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج: 45] دليل على أن هؤلاء المهلْكين كانوا من أصحاب الغِنَى والنعيم، ومن سكان القصور ومِنْ عِلْية القوم.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا..}

.تفسير الآية رقم (46):

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)}
السَّيْر: قَطْع مسافات من مكان إلى آخر، ويسمونه السياحة، والحق سبحانه يدعو عباده إلى السياحة في أنحاء الأرض؛ لأن للسياحة فائدتين:
فإما أنْ تكون سياحة استثمارية لاستنباط الرزق إنْ كنتَ في مكان يضيق بك العيش فيه، كهؤلاء الذين يسافرون للبلاد الأخرى للعمل وطلب الرزق.
وإما أن تكون سياحة لأَخْذ العبرة والتأمل في مخلوقات الله في مُلْكه الواسع ليستدل بخَلْق الله وآياته على قدرته تعالى.
والسياحة في البلاد المختلفة تتيح لك فرصة ملاحظة الاختلافات من بيئة لأخرى، فهذه حارة وهذه باردة، وهذه صحراء جرداء وهذه خضراء لا يوجد بها حبة رمل، لذلك يخاطبنا ربنا تبارك وتعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا..} [الأنعام: 11].
فالعطف في الآية ب(ثُمَّ) يدل على أن للسياحة مهمة أخرى، هي الاستثمار وطلب الرزق، ففي الآية إشارة إلى الجمع بين هاتين المهمتين، فحين تذهب للعمل إياك أنْ تغفل عن آيات الله في المكان الذي سافرت إليه، وخُذْ منه عبرة كونية تفيدك في دينك.
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فَاْنظُرُواْ..} [النمل: 69].
العطف هنا بالفاء التي تفيد الترتيب، يعني: سيروا في الأرض لتنظروا آيات الله، فهي خاصة بسياحة الاعتبار والتأمل، لا سياحة الاستثمار وطلب الرزق.
لذلك يقولون في الأمثال:(اللي يعيش ياما يشوف، واللي يمشي يشوف أكثر) فكلما تعددتْ الأماكن تعددت الآيات والعجائب الدالة على قدرة الله، وقد ترى منظراً لا يؤثر فيك، وترى منظراً آخر يهزُّك ويُحرِّك عواطفك، وتأملاتك في الكون.
وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ..} [الحج: 46] تعني وتؤكد أنهم ساروا فعلاً، كما تقول: أفلم أُكرمك؟ ولا تقول هذا إلا إذا أكرمته فعلاً، وقد حدث أنهم ساروا فعلاً في البلاد أثناء رحلة الشتاء والصيف، وكانوا يمرون على ديار القوم المهلكين، كما قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ..} [الصافات: 137].
يعني: أنتم أهل سَيْر وترحال وأهل نظر في مصير مَنْ قبلكم، فكيف يقبل منكم الانصراف عن آيات الله؟
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] فما داموا قد ساروا وترحلَّوا في البلاد، فكيف لا يعقلون آيات الله؟ وكيف لا تُحرِّك قلوبهم؟
ولنا وقفة عند قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ..} [الحج: 46] وهل يعقِل الإنسانُ بقلبه؟ معلوم أن العقل في المخ، والقلب في الصدر.
نعم، للإنسان وسائل إدراك هي الحواس التي تلتقط المحسَّات يُسمُّونها تأدُّباً مع العلم: الحواس الخمس الظاهرة؛ لأن العلم أثبت للإنسان في وظائف الأعضاء حواساً أخرى غير ظاهرة، فحين تُمسِك بشيئين مختلفين يمكنك أن تُميِّز أيهما أثقل من الآخر، فبأيِّ حاسة من الحواس الخمس المعروفة توصلْتَ إلى هذه النتيجة؟
إنْ قُلْتَ بالعين فدعْها على الأرض وانظر إليها، وإنْ قُلْتَ باللمس فلك أنْ تلمسها دون أنْ ترفعها من مكانها، إذن: فأنت لا تدرك الثقل بهذه الحواس، إنما بشيء آخر وبآلة إدراك أخرى هي حاسة العَضَلِ الذي يُميِّز لك الخفيف من الثقيل.
وحين تذهب لشراء قطعة من القماش تفرك القماش بلطف بين أناملك، فتستطيع أنْ تُميِّز الثخين من الرقيق، مع أن الفارق بينهما لا يكاد يُذْكَر، فبأيِّ حاسة أدركْتَه؟ إنها حاسة البَيْن. كذلك هناك حاسة البُعْد وغيرها من الحواسّ التي يكتشفها العلم الحديث في الإنسان.
فلما يدرك الإنسان هذه الأشياء بوسائل الإدراك يتدخَّل العقل ليغربل هذه المدركات، ويختار من البدائل ما يناسبه، فإنْ كان سيختار ثوباً يقول: هذا أنعم وأرقّ من هذا، وإنْ كان سيختار رائحة يقول: هذه ألطف من هذه، إنْ كان في الصيف اختار الخفيف، وإنْ كان في الشتاء اختار السميك.
وبعد أن يختار العقل ويوازن بين البدائل يحكم بقضية تستقر في الذِّهْن وتقتنع بها، ولا تحتاج لإدراك بعد ذلك، ولا لاختيار بين البدائل، وعندها تنفذ ما استقر في نفسك، وارتحْتَ إليه بقلبك.
إذن: إدراك بالحواس وتمييز بالعقل ووقوف عند مبدأ بالقلب، وما دام استقر المبدأ في قلبك فقد أصبح دستوراً لحياتك، وكل جوارحك تخدم هذا المبدأ الذي انتهيتَ إليه، واستقر في قلبك ووجدانك.
لكن، لماذا القلب بالذات؟ قالوا: لأن القلب هو الذي يقوم بعملية ضَخِّ سائل الحياة، وهو الدم في جميع إجزاء الجسم وجوارحه، وهذه الجوارح هي أداة تنفيذ ما استقر في الوجدان؛ لذلك قالوا: الإيمان محلّه القلب، كيف؟ قالوا: لأنك غربلْتَ المسائل وصفَّيْت القضايا إلى أن استقرت العقيدة والإيمان في قلبك، والإيمان أو العقيدة هي ما انعقد في القلب واستقرَّ فيه، ومن القلب تمتد العقيدة إلى جميع الأعضاء والحواس التي تقوم بالعمل بمقتضى هذا الإيمان، وما دُمْتَ قد انتهيتَ إلى مبدأ وعقيدة، فإياك أنْ تخالفه إلى غيره، وإلاَّ فيكون قلبك لم يفهم ولم يفقه.
وكلمة {يَعْقِلُونَ بِهَآ..} [الحج: 46] تدل على أن للعقل مهام أخرى غير أنه يختار ويفاضل بين البدائل، فالعقل من مهامه أنْ يعقل صاحبه عن الخطأ، ويعقله أنْ يشرد في المتاهات، والبعض يظن أن معنى عقل يعني حرية الفكر وأنْ يشطح المرء بعقله في الأفكار كيف يشاء، لا، العقل من عِقَال الناقة الذي يمنعها، ويحجزها أنْ تشرُدَ منك.
ثم يقول سبحانه: {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا..} [الحج: 46] كيف ولهؤلاء القوم آذان تسمع؟ نعم، لهم آذان تسمع، لكن سماع لا فائدة منه، فكأن الحاسَّة غير موجودة، وإلا ما فائدة شيء سمعتَه لكن لم تستفد به ولم تُوظِّفه في حركة حياتك، إنه سماع كعدمه، بل إن عدمه أفضل منه؛ لأن سماعك يقيم عليك الحجة.
{فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] فعمي الأبصار شيء هيِّن، إذا ما قِيسَ بعمى القلوب؛ لأن الإنسان إذا فقد رؤية البصر يمكنه أنْ يسمع، وأنْ يُعمل عقله، وأنْ يهتدي، ومَا لا يراه يمكن أنْ يخبره به غيره، ويَصِفه له وَصْفا دقيقاً وكأنه يراه، لكن ما العمل إذا عَميَتْ القلوب، والأنظار مبصرة؟
وإذا كان لعمى الأبصار بديل وعِوَض، فما البديل إذا عَمي القلب؟ الأعمى يحاول أنْ يتحسَّس طريقه، فإنْ عجز قال لك: خُذْ بيدي، أما أعمى القلب فماذا يفعل؟
لذلك، نقول لمن يغفل عن الشيء الواضح والمبدأ المستقر: أعمى قَلْب. يعني: طُمِس على قلبه فلا يعي شيئاً.
وقوله: {القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] معلوم أن القلوب في الصدور، فلماذا جاء التعبيرهكذا؟ قالوا: ليؤكد لك على أن المراد القلب الحقيقي، حتى لا تظن أنه القلب التفكيريّ التعقليّ، كما جاء في قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم..} [آل عمران: 167].
ومعلوم أن القَوْل من الأفواه، لكنه أراد أن يؤكد على القول والكلام؛ لأن القول قد يكون بالإشارة والدلالة، فالقول بالكلام هو أبلغ أنواع القول وآكده؛ لذلك قال الشاعر:
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامٌ ** ولاَ يُلْتَامُ مَا جَرَح اللسَانُ

ويقولون: احفظ لسانك الذي بين فكَّيْك، وهل اللسان إلا بين الفكَّيْن؟ لكن أراد التوكيد على القول والكلام خاصة، لا على طرق التفاهم والتعبير الأخرى.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ..}